كان يحلم ـ كغيره من الشباب الموريتانيين ـ بطفرة ثراء من الذهب بعد سماعه حديث الركبان القادمين من تيرس عن تفجر الأرض ذهبا، وبعد أن سمع توزيعات في الهواتف بالصورة والصوت لمدير شركة معادن يتحدث عن 40 كغ من الذهب يوميا تباع في تيرس، هرع الشاب ذو 27 من العمر إلى مدينة ازويرات برأس مال قليل ذهب نصفه في استخراج "بادج" لشركة "معادن موريتانيا" وهاجر مع المهاجرين في كميون شحن إلى خنادق النار في تيرس زمور.
مستجير بآبار النار
محمد القادم من بطالة قاتلة لم يجد بدا من الاستجارة بآبار النار وقد جربهم شهرين في "مجهر البير" قبل أن يستقر به المقام في "امجيحدات" على بعد 220 كلم شرق مدينة بير ام اغرين، هناك عاد لنفس الآبار وكان يمارس أخطر مهنة وهي إشعال النار داخل الأنفاق، أو ما يسمى عند المنقبين ب"حسيان النار" وهو إدخال حزمة كبيرة من الحطب إلى عمق البير ثم جمعها في النفق وإشباعها بالوقود ثم شرارة الزناد، وعلى المنقب أن يكون بسرعة البرق حتى لا تلتهمه ألسنة اللهيب كما حصل مع منقبين عدة، ويخرج من البئر عدة ساعات ثم يعود لجمع الرماد والجمر وتكون الصخرة قد لانت نسبيا.
يحدثنا محمد وهو يغالب الألم وطلب منا عدم إظهار ملامح وجهه : كانت الصخور أصلا ساخنة من الداخل فتتضاعف سخونتها بعد إشعال النار فيها وهو ما يزيد الأمراض في المنقبين الطامحين إلى كسر الأحجار "المنسّبة" بالذهب وقد تسبب هذه الحرائق أمراض في حاسة الشم لكن الرجال مضطرون لأخذ الذهب وبأية طريقة..
تفاقم المرض وانعدام الإسعاف..
يقول محمد في تصريح مرفق بهذا التقرير : إن شركة "معادن" الوصية علينا عهدنا بها يوم استخرجنا "البادج" وكانت تلتزم بتوفير سيارات إسعاف ونقطة صحية متجولة لكن الواقع مختلف أنا منذ ثلاثة أيام مريض.
في حالات المرض الحادة يفرض عليك واجبك الإنساني أن تستقل مؤقتا من مهنة صحافي يبحث عن الحقيقة إلى مهنة مسعف يريد إنقاذ بشر قد تترك حالته المرضية تتفاقم إلى الموت لا قدر الله كما وقع مع عدة مرضى في صحاري التنقيب.
رافقنا محمد إلى اقرب نقطة صحية وهي مركز بير أم اغرين ووصلنا الساعة الحادية عشر ليلا وقابلنا الطبيب هناك وقدم له بعض الإسعافات ثم الأدوية.
بعد ساعة بدأ الألم يخف وبدأت حالته الصحية تدعو للتفاؤل ويحاول الجلوس مستقيما خرجنا من المركز الصحي واستطاع النوم بعد ليال من السهر. والإدلاء بتصريح لنا عند المركز.
أخذ رفيقنا المنقب الهاتف واتصل بأهله بعد فترة من الانقطاع فكان يستمع إلى حصيلة أشهر من الأخبار منها عملية جراحية لأحد أبنائه الصغار وقد انقطع الاتصال منذ أن هاجر إلى تلك المنطقة حيث أن ظروفه لا تسمح له بتوفير الثريا.
العودة للآبار..
طلبنا من محمد أن يستقر معنا حتى نعود إلى نواكشوط لكنه اعتذر بسبب أن ظروفه لا تسمح بذلك وأنه سيقضي راحة نقاهة في ازويرات أياما ثم يعود.
قصة محمد واحدة من القصص التي عثرنا عليها بالصدفة وهي قصص كثيرة حسب المنقبين التقليديين والرسالة التي تعهدنا له بإيصالها هي أن صوته سيصل ويصل صوت المنقب ومعاناته المستمرة وهو يعيش بين العطش وغياب كل وسائل الإنقاذ بدءا بانعدام شبكات الاتصال وانتهاء بغياب سيارات الإسعاف ونقاط الصحة المتجولة.
مختار بابتاح ـ بير ام اغرين.