بين جبران و مي: لواعج حب لن تخمد (1)

خميس, 2017-07-20 23:56

في جو مشحون بضجيج السياسة وخطاباتها الرتيبة ’ تقترح الشروق  علي قرائها  "سفرا علي  بساط الريح"  يحملهم  إلي نيويورك عام 1919  يتناولون فيه كوب قهوة مضمخا  بالهيل  مع الأديب اللبناني جبران حليل جبران  ويسترقون النظر إلي احدي رسائله إلي الأديبة مي زيادة واعدة إياهم علي أن يكون الكوب الثاني مع "مي" إن لم تقطع مفرقعات الحملة إغفاءتهم الهنية هده

أيها القارئ تمتع بقهوتك واترك جبران يحدثك عن لواعجه

---------------------------------

نيويورك 9 تشرين الثاني 1919

عزيزتي الآنسة "مي"

أنتِ حاقدة عليّ , ناقمة عليّ , ولك الحق , ومعك الحق , وما عليّ سوى الامتثال فهلا نسيت إثماً اقترفته وأنا بعيد عن عالم المقاييس والموازين ؟ هلا وضعت في " صندوق الذهب" ما لا يستحق الحفظ في الصندوق الأثيري ؟

 

إن ما يعرفه الحاضر يجهله الغائب وليس من العدالة أن تحسب جهل الغائب جريمة فالجرائم لا تكون الا في موضع الإدراك والمعرفة , وأنا لا أريد أن أسكب سهواً قليلاً من الرصاص المذوب أو الماء الغالي على أصابع العارفين المدركين لعلمي أن الجريمة نفسها عقاب المجرمين وأن مصائب أكثر الناس في ما أسند إليهم من الأعمال .

لقد استأنست بذلك العنصر الشفاف الذي تتلاشى أمامه المسافة والحدود والحواجز , والنفس المستوحشة لا تستأنس إلا بذلك العنصر ولا تستصرخ سواه ولا تستنجد غيره . وأنتِ – أنتِ التي تعيشين كثيراً في عالم المعنى تعلمين أن العنصر الشفاف فينا يتنحى عن جميع أعمالنا ويبتعد حتى وعن أجمل ميولنا البيانية وأنبل رغائبنا الفنية , فهو وإن جاور الشاعرية فينا لا ينظم ذاته نشيداً غنائياً ولا يضع خفاياه في الخطوط والألوان . كل بشري يستطيع التكلف بمنازعه واللعب بمطامعه والمتاجرة بأفكاره ولكن ليس بين البشر من يستطيع التكلف بوحشته أو اللعب بألمه أو المتاجرة بجوعه وعطشه . ليس بين الناس من يقدر أن يحول أحلامه من صورة إلى صورة أو ينقل أسرار نفسه من مكان إلى مكان . وهل بإمكان الضعيف والصغير فينا أن يؤثر على القوي والعظيم فينا ؟ هل بإمكان الذات المقتبسة وهي من الأرض أن تحور وتغير الذات الوضعية وهي من السماء ؟ إن تلك الشعلة الزرقاء تنير ولا تتغير وتحول ولا تتحول وتأمر ولا تأتمر . وهل تظنين حقيقةً , وأنت أبعد الناس فكراً , أن " التهكم الدقيق " ينبت في حقل يفلحه الألم وتزرعه الوحشة ويحصده الجوع والعطش ؟ هل تظنين أن "النكتة الفلسفية " تسير بجانب الميل إلى الحقيقة والرغبة في المجرد المطلق ؟ لا يا صديقتي , أنت أرفع من الشك والارتياب . الشك يلازم الخائفين السلبيين والارتياب يلاحق من ليس لهم الثقة بنفوسهم , أما أنت فقوية إيجابية ولكِ الثقة التامة بنفسك فهلا كنتِ مؤمنة بكل ما تضعه الأيام في راحتيك ؟ هلا حولتِ عينيكِ عن المظاهر الجميلة إلى الحقيقة الجميلة ؟

 قد صرفت شهور الصيف في منزل منفرد منتصب كالحلم بين البحر والغاب فكنت كلما أضعت نفسي في الغاب أذهب إلى البحر فأجدها وكلما فقدتها بين الأمواج أعود إلى ظل الأشجار فألتقي بها . إن غابات هذه البلاد تختلف عن غابات الأرض كافةً , فهي غضة كثيفة متعرشة تعود بالذكرى إلى الأزمنة الغابرة , إلى البدء اذ كان الكلمة عند الله وكان الكلمة لله ! أما بحرنا فبحركم وذلك الصوت المجنح الذي تسمعونه على شواطئ مصر نسمعه نحن على هذه الشواطئ , وذلك القرار الرهاوي الذي يملأ صدوركم بهيبة الحياة وهولها يملأ صدرنا بهول الحياة وهيبتها . لقد أصغيت إلى نغمة البحر في مشارق الأرض ومغاربها فكانت ولم تزل هي هي الأغنية الأزلية الأبدية التي تعلو وتهبط بالروح فتكسبها تارةً الحزن وطوراً الطمأنينة . لقد أصغيت إلى تلك النغمة حتى وعلى رمال الإسكندرية – نعم على رمال الإسكندرية – وكان ذلك في صيف 1903 فسمعت اذ ذاك حديث الدهور من بحر المدنية القديمة مثلما سمعته بالأمس من بحر المدنية الحديثة , ذلك الحديث الذي سمعته للمرة الأولى وأنا في الثامنة فاحترت بأمري وألبست عليّ حياتي فأخذت أحارب بسؤالاتي الكثيرة صبر المرحومة أمي وجلدها , ذلك الحديث الذي أسمعه اليوم فأطرح السؤالات ذاتها ولكن على الأم الكلية فتجيبني بغير الكلام وتفهمني أموراً كلما حاولت اظهارها للآخرين تحولت الألفاظ في فمي إلى سكوت عميق . أنا اليوم , وقد صرت في (الثمانين؟؟؟؟) مثلما كنت وأنا في الثامنة , أجلس على شط البحر وأنظر إلى أبعد نقطة من الأفق الأزرق وأسأل ألف سؤال وسؤال : " ترى هل لنا من مجيب في ربوعكم ؟" ترى هل تتفتح الأبواب الدهرية ولو لدقيقة واحدة لنرى ما ورائها من الأسرار والخفايا ؟ أليس بامكانكم أن تقولوا لنا كلمة واحدة عن تلك الأنظمة السرية النافذة حولنا في الحياة قبل أن يضع الموت نقابه الأبيض على وجوهنا ؟" وأنت تسألين ما اذا كنت لا " أستطيب الفائدة في التفكهة بلا اجهاد " إني أستطيب الفائدة , أستطيبها إلى درجة قصوى ولكن بعد أن أترجم لفظها إلى لغتي الخاصة !!! أما الاجهاد فسلّم نصعد عليه لنبلغ العليّة . أنا بالطبع أفضل الصعود إلى عليتي طائراً ولكن الحياة لم تعلّم جانحيّ الرفرفة والطيران فماذا أفعل ؟ وأنا أفضل الحقيقة الخفية على الحقيقة الظاهرة , وأفضل الحاسة الصامتة اكتفاءً واقتناعاً على الحاسة التي تحتاج إلى التفسير والتعليل . غير أنني وجدت أن السكوت العلوي يبتدئ دائما بكلمة علوية .

إني أستطيب الفائدة , بل وأستطيب كل شيء في الحياة إلا الحيرة , فإذا جاءت الفائدة وعلى منكبيها غمر من الحيرة أغمضت عينيَّ وقلت في سري " هذا صليب آخر علي أن أحمله مع المئة صليب التي أحملها " وليست الحيرة بذاتها من الأمور المكروهة ولكنني قد رافقتها حتى مللتها – قد أكلتها خبزاً وشربتها ماءً وتوسدتها فراشاً ولبستها رداءً حتى صرت أتبرم من لفظ اسمها وأهرب من ظل ظلها .

أظن أن مقالتك في " المواكب" هي الأولى من نوعها باللغة العربية . هي أول بحث في ما يرمي إليه الكاتب بوضع كتاب . حبذا لو كان بإمكان أدباء مصر وسوريا أن يتعلموا منكِ استجواب أرواح الكتب دون أجسادها واستفسار ميول الشعراء النفسية قبل استقصاء مظاهر الشعر الخارجية . يجب عليّ أن لا أحاول اظهار امتناني الشخصي على تلك المقالة النفيسة لأنني أعلم أنها كتبت وأنت منصرفة عن كل شيء شخصي . وإذا ما حاولت اظهار امتناني القومي بصورة عمومية أوجب عليّ ذلك كتابة مقالة في تلك المقالة وهذا أمر يحسبه الشرقيون في الوقت الحاضر من الأمور التي لا تجاور الذوق السليم ! ولكن سيجيء يوم أقول فيه كلمتي في " مي " ومواهبها , وستكون كلمتي هائلة ! وستكون طويلة عريضة ! وستكون صادقة لأنها ستكون جميلة .

 

إن الكتاب الذي سيصدر في هذا الخريف هو كتاب رسوم خالٍ من " ضجيج التمرد والعصيان ." ولولا اضراب العمال في المطابع لظهر منذ ثلاثة أسابيع . وفي السنة القادمة سيصدر كتابان الأول " المستوحد " وربما دعوته باسم آخر " وهو مؤلف من قصائد وأمثال والثاني كتاب رسوم رمزية باسم " نحو الله " وبهذا الأخير انتهي من عهد وابتدئ بعهد آخر . وأما " النبي " فكتاب فكرت به منذ ألف سنة ولكنني لم أكتب فصلاً من فصوله حتى أواخر السنة الغابرة . وماذا عسى أقول لك عن هذا النبي ؟ هو ولادتي الثانية ومعموديتي الأولى . هو الفكرة الوحيدة التي تجعلني حرياً بالوقوف أمام وجه الشمس . ولقد وضعني هذا النبي قبل أن أحاول وضعه , وألفني قبل أن أفكر بتألفيه , وسيرني صامتاً وراءه سبعة آلاف فرسخ قبل أن يقف ليملي عليّ ميوله ومنازعه .

 

أرجوك أن تسألي رفيقي ومعاوني العنصر الشفاف عن هذا النبي وهو يقص عليك حكايته . اسألي العنصر الشفاف , اسأليه في سكينة الليل عندما تنعتق النفس من قيودها وتتملص من أثوابها وهو يبوح لكِ بأسرار هذا النبي وبخفايا من تقدمه من الأنبياء أجمعين .

أنا أعتقد يا صديقي أن في العنصر الشفاف من العزم ما لو وضعنا ذرةً منه تحت جبل لانتقل من مكان إلى مكان آخر , واعتقد , بل واعلم , أننا نستطيع أن نمد ذلك العنصر سلكاً بين بلاد وبلاد فنعلم بواسطته كل ما نريد أن نعلمه ونحصل على كل ما نشوق إليه ونبتغيه .

ولدّي أمور كثيرة أريد أن أقولها عن العنصر الشفاف وغيره من العناصر ولكن عليّ أن أبقى صامتاً عنها . وسوف أبقى صامتاً حتى يضمحل الضباب وتنفتح الأبواب الدهرية ويقول لي ملاك الرب " تكلم , فقد ذهب زمن الصمت وسر فقد طال وقوفك في ظلال الحيرة ."

أي متى يا ترى تنفتح الأبواب الدهرية ؟ هل تعلمين ؟ هل تعلمين أي متى تتفتح الأبواب الدهرية ويضمحل الضباب ؟

والله يحفظك يا " مي" ويحرسك دائماً

المخلص

جبران خليل جبران

 

اقرأ أيضا